فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والأمانة مصدر بمعنى المفعول فلذلك جُمع.
ووجه النظم بما تقدّم أنه تعالى أخبر عن كتمان أهل الكتاب صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وقولهم: إن المشركين أهْدَى سبيلًا، فكان ذلك خيانة منهم فانجرّ الكلام إلى ذكر جميع الأمانات؛ فالآية شاملة بنظمها لكل أمانة وهي أعداد كثيرة كما ذكرنا.
وأمهاتها في الأحكام: الوَدِيعة واللُّقَطَة والرهن والعارِيّة.
وروى أُبَى بن كعب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أَدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تَخُن من خانك» أخرجه الدَّارَقُطْني.
ورواه أنس وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدّم في [البقرة] معناه.
وروى أبو أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حِجَة الوداع: «العارِيّة مؤدّاة والمِنْحة مردودة والدَّين مُقْضى والزّعِيم غارم» صحيح أخرجه الترمذي وغيره. وزاد الدّارَقُطْني.
فقال رجل: فَعَهْدُ الله؟ قال: «عهد الله أحقُّ ما أُدّى» وقال بمقتضى هذه الآية والحديث في ردّ الوديعة وأنها مضمونة على كل حال كانت مما يغاب عليها أو لا يغاب تُعدّى فيها أو لم يُتعدّ عطاءٌ والشافعي وأحمد وأشهب. ورُوي أن ابن عباس وأبا هريرة رضي الله عنهما ضمنا الوديعة.
وروى ابن القاسم عن مالك أن من استعار حيوانا أو غيره مما لا يغاب عليه فتلِف عنده فهو مصدَّق في تَلفه ولا يضمنه إلا بالتّعدي.
وهذا قول الحسن البصري والنَّخَعي، وهو قول الكوفيين والأوزاعي قالوا: ومعنى قوله عليه السلام: «العارِيَةُ مؤَدّاة» هو كمعنى قوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا}.
فإذا تَلِفَت الأمانة لم يلزم المؤتمن غرمها لأنه مصدق؛ فكذلك العارية إذا تلفت من غير تَعدٍّ؛ لأنه لم يأخذها على الضمان، فإذا تلِفَت بتعدّيه عليها لزمه قيمتها لجنايته عليها.
وروي عن علي وعمر وابن مسعود أنه لا ضمان في العارِيّة.
وروى الدّارقُطْني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ضمان على مؤتَمن» واحتج الشافعي فيما استدلّ به بقول صَفْوان للنبي صلى الله عليه وسلم لما استعار منه الأدراع: أعارِيّة مضمونة أو عارِيّة مؤدّاة؟ فقال: «بل عارية مؤدّاة». اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إِلَى أَهْلِهَا} أخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان بن أبي طلحة فلما أتاه قال: أرني المفتاح فأتاه به فلما بسط يده إليه قام العباس فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي اجعله لي مع السقاية فكف عثمان يده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرني المفتاح يا عثمان فبسط يده يعطيه، فقال العباس مثل كلمته الأولى فكف عثمان يده، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عثمان إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فهاتني المفتاح، فقال: هاك بأمانة الله تعالى فقام ففتح الكعبة فوجد فيها تمثال إبراهيم عليه السلام معه قداح يستقسم بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما للمشركين قاتلهم الله تعالى وما شأن إبراهيم عليه السلام وشأن القداح وأزال ذلك، وأخرج مقام إبراهيم عليه السلام وكان في الكعبة؛ ثم قال: أيها الناس هذه القبلة، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم نزل عليه جبريل عليه السلام فيما ذكر لنا برد المفتاح فدعا عثمان بن أبي طلحة فأعطاه المفتاح ثم قال: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ}» الآية.
وفي رواية الطبراني «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين أعطى المفتاح: خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم» يعني سدانة الكعبة، وفي [تفسير ابن كثير] «أن عثمان دفع المفتاح بعد ذلك إلى أخيه شيبة بن أبي طلحة فهو في يد ولده إلى اليوم»، وذكر الثعلبي والبغوي والواحدي «أن عثمان امتنع عن إعطاء المفتاح للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فلوى علي كرم الله تعالى وجهه يده وأخذه منه فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباس أن يجمع له السدانة والسقاية فنزلت فأمر عليًا كرم الله تعالى وجهه أن يرد ويعتذر إليه وصار ذلك سببًا لإسلامه ونزول الوحي بأن السدانة في أولاده أبدًا» وما ذكرناه أولى بالاعتبار.
أما أولًا: فلما قال الأشموني: إن المعروف عند أهل السير أن عثمان بن طلحة أسلم قبل ذلك في هدنة الحديبية مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص كما ذكره ابن إسحاق وغيره وجزم به ابن عبد البر في [الاستيعاب]. والنووي في [تهذيبه].
والذهبي وغيرهم، وأما ثانيًا: فلما فيه من المخالفة لما ذكره ابن كثير، وقد نصوا على أنه هو الصحيح، وأما ثالثًا: فلأن المفتاح على هذا لا يعد أمانة لأن عليًا كرم الله تعالى وجهه أخذه منه قهرًا وما هذا شأنه هو الغصب لا الأمانة، والقول بأن تسمية ذلك أمانة لأن الله تعالى لم يرد نزعه منه، أو للإشارة إلى أن الغاصب يجب أن يكون كالمؤتمن في قصد الرد، أو إلى أن عليًا كرم الله تعالى وجهه لما قصد بأخذه الخير وكان أيضًا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم جعل كالمؤتمن في أنه لا ذنب عليه لا يخلو عن بعد، وأيًا مّا كان فالخطاب يعم كل أحد كما أن الأمانات، وهي جمع أمانة مصدر سمي به المفعول تعم الحقوق المتعلقة بذممهم من حقوق الله تعالى وحقوق العباد سواء كانت فعلية أو قولية أو اعتقادية، وعموم الحكم لا ينافي خصوص السبب، وقد روي ما يدل على العموم عن ابن عباس.
وأبي. وابن مسعود.
والبراء بن عازب وأبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وإليه ذهب الأكثرون، وعن زيد بن أسلم واختاره الجبائي وغيره أن هذا خطاب لولاة الأمر أن يقوموا برعاية الرعية وحملهم على موجب الدين والشريعة، وعدوا من ذلك تولية المناصب مستحقيها، وجعلوا الخطاب الآتي لهم أيضًا، وفي تصدير الكلام بإن الدالة على التحقيق وإظهار الاسم الجليل وإيراد الأمر على صورة الإخبار من الفخامة وتأكيد وجوب الامتثال والدلالة على الاعتناء بشأنه ما لا مزيد عليه، ولهذا ورد من حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا إيمان لمن لا أمانة له» وأخرج البيهقي في [الشعب] عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع إذا كن فيك فلا عليك فيما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة وصدق حديث وحسن خليقة وعفة طعمة». وأخرج عن ميمون بن مهران «ثلاث تؤدين إلى البر والفاجر: الرحم توصل برة كانت أو فاجرة والأمانة تؤدى إلى البر والفاجر والعهد يوفى به للبر والفاجر»، وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان» والأخبار في ذلك كثيرة، وقرئ الأمانة بالإفراد والمراد الجنس لا المعهود أي يأمركم بأداء أيّ أمانة كانت. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن نزول هذه الآية عند هذه القصة لا يوجب كونها مخصوصة بهذه القضية، بل يدخل فيه جميع أنواع الأمانات، واعلم أن معاملة الإنسان إما أن تكون مع ربه أو مع سائر العباد، أو مع نفسه، ولابد من رعاية الأمانة في جميع هذه الأقسام الثلاثة.
أما رعاية الأمانة مع الرب: فهي في فعل المأمورات وترك المنهيات، وهذا بحر لا ساحل له قال ابن مسعود: الأمانة في كل شيء لازمة، في الوضوء والجنابة والصلاة والزكاة والصوم.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: إنه تعالى خلق فرج الإنسان وقال هذا أمانة خبأتها عندك فاحفظها إلا بحقها، واعلم أن هذا باب واسع، فأمانة اللسان أن لا يستعمله في الكذب والغيبة والنميمة والكفر والبدعة والفحش وغيرها، وأمانة العين أن لا يستعملها في النظر إلى الحرام، وأمانة السمع أن لا يستعمله في سماع الملاهي والمناهي، وسماع الفحش والأكاذيب وغيرها، وكذا القول في جميع الأعضاء.
وأما القسم الثاني: وهو رعاية الأمانة مع سائر الخلق فيدخل فيها رد الودائع، ويدخل فيه ترك التطفيف في الكيل والوزن، ويدخل فيه أن لا يفشي على الناس عيوبهم، ويدخل فيه عدل الأمراء مع رعيتهم وعدل العلماء مع العوام بأن لا يحملوهم على التعصبات الباطلة، بل يرشدونهم إلى اعتقادات وأعمال تنفعهم في دنياهم وأخراهم، ويدخل فيه نهي اليهود عن كتمان أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ونهيهم عن قولهم للكفار: إن ما أنتم عليه أفضل من دين محمد صلى الله عليه وسلم، ويدخل فيه أمر الرسول عليه الصلاة والسلام برد المفتاح إلى عثمان بن طلحة، ويدخل فيه أمانة الزوجة للزوج في حفظ فرجها، وفي أن لا تلحق بالزوج ولدا يولد من غيره.
وفي إخبارها عن انقضاء عدتها.
وأما القسم الثالث: وهو أمانة الإنسان مع نفسه فهو أن لا يختار لنفسه إلا ما هو الأنفع والأصلح له في الدين والدنيا، وأن لا يقدم بسبب الشهوة والغضب على ما يضره في الآخرة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» فقوله: {يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أهلها} يدخل فيه الكل، وقد عظم الله أمر الأمانة في مواضع كثيرة من كتابه فقال: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السموات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان} [الأحزاب: 72] وقال: {والذين هُمْ لأماناتهم وَعَهْدِهِمْ راعون} [المؤمنون: 8] وقال: {لاَ تَخُونُواْ الله والرسول وتَخُونُواْ أماناتكم} [الأنفال: 27] وقال عليه الصلاة والسلام: «لا إيمان لمن لا أمانة له» وقال ميمون بن مهران: ثلاثة يؤدين إلى البر والفاجر: الأمانة والعهد وصلة الرحم.
وقال القاضي: لفظ الأمانة وإن كان متناولا للكل إلا أنه تعالى قال في هذه الآية: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إِلَى أَهْلِهَا} فوجب أن يكون المراد بهذه الأمانة ما يجري مجرى المال؛ لأنها هي التي يمكن أداؤها إلى الغير. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة {إنّ الله يأمركم} صريحة في الأمر والوجوب، مثل صراحة النهي في قوله في الحديث: «إنّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم».
(وإنّ) فيها لمجرد الاهتمام بالخبَر لظهور أنّ مثل هذا الخبر لا يقبل الشكّ حتّى يؤكّد لأنّه إخبار عن إيجاد شيء لا عن وجوده، فهو والإنشاء سواء.
والخطاب لكلّ من يصلح لتلقّي هذا الخطاب والعمل به من كلّ مؤتمن على شيء، ومن كلّ من تولّى الحكم بين الناس في الحقوق.
والأداء حقيقة في تسليم ذات لمن يستحقّها، يقال: أدّى إليْه كذا، أي دفعه وسلّمه، ومنه أداء الدَّين.
وتقدّم في قوله تعالى: {من إن تأمنّه بقنطار يؤدّه إليك} في سورة آل عمران [75].
وأصل أدَّى أن يكون مضاعفَ أدَى بالتخفيف بمعنى أوصل، لكنّهم أهمْلوا أدى المخفّف واستغنوا عنه بالمضاعف.
ويطلق الأداء مجازًا على الاعتراف والوفاء بشيء.
وعلى هذا فيطلق أداء الأمانة على قَول الحقّ والاعتراف به وتبليغ العلم والشريعة على حقّها، والمراد هنا هو الأوّل من المعنيين، ويعرف حكم غيره منهما أو من أحدهما بالقياس عليه قياس الأدْوَن.
والأمانة: الشيء الذي يجعله صاحبه عند شخص ليحفظه إلى أن يطلبه منه، وقد تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى: {فليؤدّ الذي ائتمن أمانَتهُ} في سورة [البقرة 283].
وتطلق الأمانة مجازًا على ما يجب على المكلّف إبلاغه إلى أربابه ومُستحقيه من الخاصّة والعامّة كالدّين والعلم والعهود والجوار والنصيحة ونحوها، وضدّها الخيانة في الإطلاقين.
والأمر للوجوب.
والأمانات من صيغ العموم، فلذلك قال جمهور العلماء فيمن ائتمنه رجل على شيء وكان للأمين حقّ عند المؤتَمَن جحدهُ إيّاه: إنّه لا يجوز له أخذ الأمانة عوض حقّه لأنّ ذلك خيانة، ومنعه مالك في المدوّنة، وعن ابن عبد الحكم: أنه يجوز له أن يجحده بمقدار ما عليه له، وهو قول الشافعي.
قال الطبري عن ابن عباس، وزيد بن أسلم، وشَهْر بن حَوشب، ومكحول: أنّ المخاطب ولاة الأمور، أمرهم أن يؤدّوا الأمانات إلى أهلها.
فإطلاق اسم الأمانة في الآية حقيقة، لأنّ عثمان سلّم مفتاح الكعبة للنبيء عليه الصلاة والسلام دون أن يُسقط حقّه.
والأداء حينئذٍ مستعمل في معناه الحقيقي، لأنّ الحقّ هنا ذات يمكن إيصالها بالفعل لمستحقّها، فتكون الآية آمرة بجميع أنواع الإيصال والوفاءات، ومن جملة ذلك دفع الأمانات الحقيقية، فلا مجاز في لفظ (تؤدّوا). اهـ. بتصرف يسير.